مرت عشرة أيام إشترى خلالها عبد الصمد بضائع مختلفة من صندل وأبنوس وعطور وعاج وجاء تجار آخرون فاكتروا مكانا في المركب وبعد شهر وصلوا البصرة فالتقى حبيب بامه التي فرحت برجوعه وملأ الدكان بما حمله من توابل الهند وراجت تجارته وصارت له ثلاثة دكاكين في السوق وغير داره وسكن في حي راقي لكي لا يراه أحد من أهل حارته الذين عرفوه وقت فقره وصار يتهرب حتى من الشيخ عبد الصمد ...
لكن الشيئ الوحيد الذي لم ينساه هي أميمة وفي بعض الأحيان لما يختلي بنفسه يبكي كلما يتذكر ضحكتها العذبة كانت أمه تعرف ما يحس به من ألم وقالت له سأخطب لك فتاة جميلة من معارفي وستنسى تلك الحورية لكن لما حضرت تلك الفتاة لم يجد فيها ما يعجب فهي كبقية البنات لا يهمها سوى ما سيأتيها به من حرير وحلي ..
صار لحبيب كل ما يحلم به قصر في حي الرصافة وعبيد وبستان نخيل وسفينة في ميناء البصرة تجوب البحار من الهند إلى الصين لكنه رغم ذلك فلم يكن يشعر بالسعادة التي كان يجدها في حارته مع جيرانه و في دار أبيه الصغيرة التي تفوح منها رائحة الذكريات و بمرور الوقت بدأ يحن إلى الأيام الجميلة التي أمضاها في الواقواق و سرح بخياله لما كان يصطاد السمك مع بلال الذي يحبه كأخيه أو يسبح مع صديقته أميمة ولم يكلف نفسه حتى إرسال هدية لإسترضاءها فهي من تعب في جمع الجواهر من البحر لشراء السفينة وتساءل إن كانت هذه هي الحياة التي تمنى أن يعيشها و تذكر أهل الجزيرة الذين يعيشون سعداء ورغم ما عندهم من خيرات فهم لا يأخذون منها إلا حاجتهم ولا يفكرون في الربح وكان يرى الفقراء في أزقة البصرة يأكلون طعامهم ويضحكون فيحسدهم على راحة بالهم .وأحد الليالي حلم أن أميمة تجلس على صخرة وسط البحر وتغني بصوت حزين وقد جف جسدها الفضي وتشقق جلدها وتقول
لم تركتني ورحلت
يا ابن البصرة يا حبيب
لقد حزن قلبي
ولم ينفع فيه علاج
ولا دواء طبيب
سأموت إن لم تراك عيناي
روحي تناديك
فهل للنداء من مجيب
إستيقظ الفتى وتعوذ بالله فلقد كان الحلم حقيقيا لدرجة أنه شم رائحة البحر فبكى بكاءا عظيما وأيقظ أمه وطلب منها أن تعد أمتعتها للرحيل فسألته مندهشة إلى أين يا إبني أجابها إلى جزر الوقواق قالت ومنذ متى أقدر على ركوب البحر ثم ما الذي دهاك لتطلب مني ذلك في وسط الليل !!! أجابها لقد رأيت حلما أفزعني كانت فيه تلك الحورية ټموت قالت وما شأننا بها كان على أبيها أن يفكر قبل أن يرفض زواجك منها !!! رد عليها كفي عن النقاش وأسرعي بإعداد نفسك سنبحر في الساعات الأولى للفجر قالت المرأة وتجارتك لمن ستتركها أجاب سأقفل الدكاكين لحين عودتي هذا إذا عدت !!! همت أمه بالكلام لكنها صمتت فهي تعلم عناد إبنها وإذا وضع شيئا في رأسه فلا أحد يثنيه عن ذلك في الفجر جاء العبيد ونقلوا أكياسا من التمر والزاد وكثيرا من الملابس والهدايا من الذهب والفضة ثم رفع البحارة الأشرعة وبدأت السفينة تتهادى فوق الماء .
عانت أم حبيب كثيرا من دوار البحر وكانت غاضبة منه وطول الوقت وهي رابطة رأسها من الۏجع وكلما رأته وبخته على ضعف تدبيره فبعدما كان من أعيان البصرة ها هو يفسد كل شيئ من أجل حورية وجدها في البحر وليست من جنسه لكنه.
كان يجيبها وماذا ينفع المال يا أمي دون سعادة لقد إعتقدت أنه بدراهمي يمكنني شراء كل شيئ لكني كنت مخطئا فلا يصحبني الناس إلا عن طمع ومن يحبك يكون معك وقت الفقر لقد أحببنا بعضنا أنا وأميمة وكنت شريدا لا أملك شيئا وما دخل المال على قوم إلا أفسد ما بأنفسهم .
حين إقتربت السفينة من الشاطئ لمح حبيب الڼار تشتعل في الأكواخ وسمع الصرخات وكان القراصنة يمرون بزوارقهم وينهبون كل ما يجدونه من طعام وحيوانات وفجأة لمح من بعيد بلال يدافع بشراسة عن نرجسة وأميمة وقد حاصرهم رجال يشهرون الحراب فصاح حبيب في عبيده خذوا السيوف وأنقذوا ذلك الولد والجاريتين !!! لما رآى الناس هذا المدد إنعطفوا على قطاع الطرق وأشبعوهم طعنا وقاټل حبيب بشجاعة وشق طريقه إلى أميمة وهو يصيح لبيك لقد سمعت النداء من وراء البحار وجئت إليك !!! أما الحورية فلما رأته جرت إليه وهي تبكي وتشهق فضمھا إلى صدره وقال لها هذه المرة لن أبتعد عنك أبدا ...
بعد قليل جاء ملك البحر في قومه وهو قلق على إبنتيه ولما رأى أنهما بخير وأن حبيب قد قضى على المهاجمين ناداه وقال له لقد أخطأت في حقك وبإمكانك أن تتزوج إبنتي وتأخذها إلى بلادك !!! فأجابه الفتى بل سأعيش هنا معها يا عماه فرح ملك البحر ثم غاص وأحضر له صندوقا باللؤلؤ والجواهر وقال هذه هدية عرسك .ثم بنى حبيب كوخا بجانب بلال وتزوج فيه وصار أغنى من كل أعيان الواقواق بفضل تجارة الزهرة البيضاء التي تنقلها سفينته إلى البلدان .ولما ماټ ملك الجزيرة نصبه كبير الكهنة سيدا على الجزيرة وقرر حبيب زيادة الإتاوات عن تجار البصرة وعمان الذين يأتون للشراء بأسعار رخيصة وقال لأهل الجزيرة لكم الحق في الإنتفاع من خيرات بلادكم عوض أن يذهب كل شيئ في جيوب التجار !!! ومنذ ذلك اليوم تناقصت أرباح القوم وغضبوا منه كثيرا وفي الأخير عزموا على خلعه .وكان من أشد المعارضين له جماعة من الأعيان لم يقبلوا كيف يصير أحد الغرباء ملكا عليهم فتآمر التجار معهم على حبيب ولم يكتفوا بذلك فقد أوغروا عليه صدر والي البصرة الذي إستولى على قصره وأملاكه ولم يترك له شيئا من مال أو متاع .
أحد الليالي جاء بلال يجري لحبيب وقال له أنج بنفسك فالقوم آتون لقټلك فطلع للسفينة مع أمه وأميمة ولما ابتعدت قليلا رأى أشخاصا ملثمين ينهبون كل ما في كوخه من ذهب وحلي ثم رموا عليه المشاعل فأحرقوه فقال حبيب تبا لكم !!! لقد هربت من أهل مدينتي فأبوا إلا أن يأتوا الى هنا بشرورهم قالت أمه ماذا ستفعل الآن لقد صرت فقيرا و لا أحد يريدك لا في بلدتك ولا في الوقواق !!! ردت أميمة تعال وعش معنا في البحر وستعطيك ساحرتنا نجمة تلصقها على جسمك وسيكون بوسعك التنفس تحت الماء فكر حبيب قليلا ثم إلتفت لعبيده وقال لهم بيعوا السفينة واقتسموا ثمنها أما أنا فسأذهب مع الحورية إلى مملكتها في البحر لكن أحد العبيد واسمه مروان قال بل نأتي مع سيدنا وهتف بقية العبيد ونحن معك بعد قليل أتت ساحرة عجوز في يدها سلة مليئة بنجوم البحر فألصقها كل واحد بجسده ثم أغرق العبيد السفينة وبدأت تنزل ببطئ للأعماق .
رأى حبيب الأسماك ومخلوقات البحر و هي تسبح حوله حتى لامست السفينة القاع ولما خرجوا من الحطام وجدوا مدينة